الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثورة ظفار في ذكراها

محمد جواد الحسن

2014 / 6 / 9
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية


ثورة ظفار في ذكراها

في التاسع من يونيو حزيران العام 1965 أطلق سعيد غانم سمحان الرويعي النار على دورية للجيش البريطاني في "وادي رزق" غرب "عوقد" بإقليم ظفار معلناً بذلك ثورة التاسع من يونيو الشهيرة بثورة ظفار قبل أن يسقط كأول شهدائا، أحد أهم محطات العمل الثوري العربي وأهمها على الإطلاق في ساحة الخليج والجزيرة العربية والتي استمرت حتى العام 1979.
اليوم تمر الذكرى التاسعة والأربعين لتلك الثورة وسط نسيان وتجاهل كبيرين، فبالرغم من أنها لاتزال تُدرس في الكليات الحربية الغربية كأحد أهم تجارب مكافحة الثورات (counterinsurgency)، فإن الثوريين العرب مقصرون جداً في دراستها بينما هي أحد أغنى تجاربهم، العدو هنا يغلبنا مرة أخرى! هذا لا يمنع من الاعتراف بأن المسألة ليست بالسهلة، فالمصادر لاتزال شحيحة وفقيرة بالتفاصيل، يضاف إلى ذلك الصمت المطبق الذي يميز كل من شارك في صنع الأحداث في تلك الحقبة الصاخبة من عمر الأمة العربية. ومن المشاكل التي تصادف الباحثين والمهتمين هي أن المصادر تعيد تكرار نفس المعلومات - باستثناء مصدرين أو ثلاثة - ولا تضع الأحداث في سياقها السليم المرتبط بفهم عميق للحركة القومية العربية وتطورها والحركة الشيوعية العالمية ولاسيما الصراع الصيني - السوفييتي، أو ما عرف حينها بالصراع بين الماوية والتحريفية السوفييتية. إن محاولة إلقاء الضوء على تلك الأحداث التاريخية المفصلية ووضعها في إطارها السليم قد يكون الطريق الأمثل لإحياء ذكرى ثورة ألهمت الكثير من العرب ومازالت تلهم الشباب.

ساحة الثورة وساحة القتال

يقع الكثير من الباحثين والمهتمين بخطأ كبير حين يقومون بالخلط بين تلك الساحتين، فيجعلونهما ساحة واحدة ويحصرونها في عمان، بل وفي بعض الأحيان في ظفار! والواقع أن ساحة الثورة كانت مجمل الخليج العربي، من الكويت شمالاً حتى عمان جنوباً، ويتجلى ذلك في أحد شعارات الثورة: "ثورة شعبية من ضلكوت للشامية!" وضلكوت منطقة في أقصى غرب عمان بينما الشامية في قلب الكويت. إن أبرز دلائل اتساع ساحة الثورة هو الدور الهائل الذي لعبه البحرينيون والكويتيون في صنع أحداث الثورة، وقد اشتهر منهم عدد غير قليل على رأسهم الأستاذة الراحلة ليلى فخرو، والتي قيل أنها ألهمت صنع الله ابراهيم ليكتب رواية "وردة". أما ساحة القتال، أي مسرح العمليات العسكرية، فكان إقليم ظفار الواقع إلى الغرب من سلطنة عمان، وهو منطقة جبلية وعرة مركزها مدينة صلالة. ولا شك في أن لظفار خصوصية ثقافية تميزها ليس أقلها اللغة الشحرية التي تعتبر اللغة السائدة في الإقليم. إلا أن الأهم في تلك الحقبة هو الفقر الشديد والتخلف الذي فُرض على الأهالي والاستبداد الهائل، مضافاً إليه الوجود الاستعماري البريطاني في وقت كان العرب يقاتلون بشراسة لنيل استقلالهم وحريتهم وإجلاء القوات الأجنبية عن أرضهم. لقد دفع الفقر الشديد بالعديد من أبناء ظفار - وعمان عموماً - للهجرة إلى دول الجوار بحثاً عن الرزق، وهناك اختلط هؤلاء بالشباب القومي المتحمس والمسيطر حينذاك على الشارع السياسي والمتأثر بزعامة الراحل جمال عبد الناصر، مما أدى إلى زيادة وعيه السياسي وإدراكه لضرورة التغيير الجذري، فكان تأسيس "جبهة تحرير ظفار" الخطوة الأولى.

جبهة تحرير ظفار

جرت مباحثات تأسيس الجبهة في الكويت في كانون أول - ديسمبر 1964 بين ثلاثة تنظيمات هي : حركة القوميين العرب (فرع الخليج) والهيئة الخيرية الظفارية (المرتبطة بالإمام غالب الهنائي قائد ثورة الجبل الأخضر في عمان عام 1957) ومنظمة الجنود الظفاريين وهي منظمة ضمت في صفوفها الجنود العاملين في جيوش إمارات الخليج كقطر والبحرين والشارقة. في السادس والعشرين من نفس الشهر تم الاتفاق على إعلان جبهة تحرير ظفار باندماج تلك المنظمات الثلاثة، وعقد المؤتمر التأسيسي الأول في وادي غيض بعمان -بعد العودة إلى ظفار - في الأول من حزيران - يونيو 1965 وأعلن الكفاح المسلح في التاسع منه. وفي الكويت، صاغ محمد أحمد الغساني من حركة القوميين العرب بيان الثورة وأعلنه هناك. ومن الجدير ذكر الملاحظة التي قدمها الأستاذ محمد العمري في كتابه "ظفار : الثورة في التاريخ العماني المعاصر" حول طبيعة تلك التنظيمات وأثرها في الكيان الموحد. فحركة القوميين العرب وفرت الكادر المثقف والمؤدلج، بينما الهيئة الخيرية الظفارية أمّنت البعد الاجتماعي عن طريق علاقاتها الواسعة بأبناء المنطقة، بينما شكلت منظمة الجنود الظفارية الغالبية الساحقة من مقاتلي الجبهة وقادتها العسكريين، وبذلك يكون الكيان الموحد مكتمل الجوانب.
استمر العمل المسلح وقامت الجبهة بمحاولة اغتيال السلطان سعيد بن تيمور في نيسان - أبريل من العام 1966، لكن المحاولة باءت بالفشل. وقد تجاوب الأهالي بصورة كبيرة مع الثورة وأعلنوا ولاءهم لها واحتضنوها مما أدى إلى سرعة نموها وانتشارها بين القبائل والفلاحين، وتمكنت جبهة تحرير ظفار من السيطرة على مساحات واسعة من ظفار سُميت في حينها بالمناطق المحررة.

نكسة حزيران 1967 والتجذير اليساري

مما هو معروف أن هزيمة حزيران كانت ضربة هائلة للحركة القومية العربية، وقد انعكس ذلك على حركة القوميين العرب بكامل فروعها بما في ذلك فرع الخليج العربي. فقد عقدت الحركة مؤتمرا استثنائياً في دبي في تموز - يوليو 1968 وقررت الانفصال عن الحركة الأم وتجميد قيادة الفرع المتمثلة بالدكتور أحمد الخطيب في الكويت، وإعلان الحركة الثورية الشعبية في عمان والخليج العربي وتبني الماركسية - اللينينية بنسختها الصينية (الماوية) بما يعنيه ذلك من تبنٍ رسمي لنهج العنف الثوري والكفاح المسلح. ولا شك في أن قرارات هذا المؤتمر قد أثرت على توجهات جبهة تحرير ظفار كون "الحركيين" جزء أساسي من بنية الجبهة. وعليه، فقد عقدت جبهة تحرير ظفار مؤتمراً تاريخياً في أيلول - سبتمبر 1968 في وادي حمرين، واتخذت في هذا المؤتمر أهم قرارات الثورة. القرار الأول هو تغيير إسم الجبهة إلى الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل، وبالتالي تم التأكيد على شمولية الثورة وعدم حصرها في ظفار. القرار الثاني كانت تبني الماركسية - اللينينية (الماوية). وهنا تقع الغالبية الساحقة من الباحثين في خطأ جسيم، حيث يأخذون على الثورة تبنيها لفكر "غريب" و"مستورد" لا يصلح لبيئة ريفية بسيطة كالتي ميزت ظفار. والحقيقة هي أن أي ملم بتاريخ الحركة الشيوعية وتطورها يدرك تماماً أن النسخة الصينية - الماوية - هي بالأساس ماركسية "ريفية" تعتمد على الفلاحين وتطرح قضايا تختلف نوعياً عما تطرحه الأحزاب الشيوعية الأوروبية والأحزاب المتأثرة بها. فالماوية تطرح مسألة التحرر من الاستعمار - الأمة كاملة ضد الاستعمار، لا الطبقة وحدها - وتحطيم الإقطاع وتمكين الفلاحين وخوض الكفاح المسلح بالانطلاق من الريف ومحاصرة المدن، إنها ببساطة: شيوعية المستعمرات وأشباه المستعمرات لا شيوعية المجتمعات الصناعية. كما أن الماوية كانت تطرح ما أسمته "خط الجماهير" في مقابل نظرية "الأحزاب الطليعية"، فهي - أي الماوية - وإن سلمت بقيادة الحزب الشيوعي، فإنها رفضت تمثيله "الضمني" للجماهير ودفعت بـ "الديمقراطية المباشرة" وحق الجماهير بالممارسة اليومية لصنع القرار، كما طرحت "الحرب الشعبية" وغير ذلك من القضايا التي كانت تلائم تماماً الوضع المتخلف لظفار خصوصاً والخليج العربي عموماً. إلا أن الجبهة الشعبية لم تتخل عن أفقها العروبي والوحدوي، شأنها في ذلك شأن العديد من التنظيمات القومية العربية التي تأثرت بأفكار ياسين الحافظ وأمثاله.
لقد كان لمقررات مؤتمر حمرين آثاراً هائلة على أداء الثورة. فعلى المستوى العسكري تم تبني مبدأ الحرب الشعبية التي تعتمد على تعبئة كافة الجماهير في المناطق المحررة وتثقيفها سياسيا وتدريبها عسكريا، مما أدى إلى تأسيس الميليشيات الشعبية بغرض الدفاع المحلي، فشكلت تلك الميليشيات مع جيش التحرير الشعبي مجمل قوى الثورة الضاربة. أما سياسياً فيكفي الإشارة إلى أن تلك التشكيلات العسكرية كانت تتبع المرشدين السياسيين الذين تختارهم الجبهة، فالمرشد السياسي كان أكبر شأناً من القائد العسكري. كما أنه أسندت لقوات جيش التحرير الشعبي مهمات ذات طابع اجتماعي واقتصادي كمحو الأمية والتعليم ومساعدة الفلاحين في الزراعة والري والحصاد وشق الطرق وما إلى ذلك. كما نجحت الجبهة إلى حد كبير في القضاء على النزعات القبلية والعشائرية وقامت بتحرير العبيد وتحرير المرأة وتمكينها لتصبح مقاتلة وقائدة عسكرية ومرشدة سياسية، كما أعطيت حقوقها المدنية كاملة فأصبحت قادرة على رفض أو قبول الزواج في بقعة لم تكن المرأة فيها أكثر من تابع للرجل.
إلا أن التوجهات الجديدة لم ترق للكثيرين، وبالذات شيوخ بعض القبائل وأصحاب النزعات المحافظة. فجرت حركة تمرد داخلية مسلحة في أيلول - سبتمبر 1970، عرفت في أدبيات الجبهة بـ "الحركة الانقسامية"، لكن سرعان ما تمكنت الثورة من قمع تلك الحركة. لكن بتولي السلطان الجديد - قابوس بن سعيد - مقاليد الحكم في نفس العام، تحول جزء من مقاتلي الثورة القريبين من الحركة الانقسامية إلى خدمة السلطان الجديد وشكلوا ما عرف بالفرق الوطنية.
وكرد فعل على ذلك التحول، عقدت الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل مؤتمرا في كانون ثاني - ديسمبر 1971 في منطقة أهليش بمشاركة الجبهة الوطنية لتحرير عمان والخليج العربي الناشطة خارج ظفار، وتم توحيد الجبهتين في الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي كخطوة نحو توحيد كافة فصائل العمل الثوري. واستمرت الثورة بنهجها المسلح وحاولت الجبهة عدة مرات تفجير العمل المسلح داخل العاصمة مسقط، لكنها فشلت في ذلك، ولعل أهم تلك المحاولات هي التي أشرف عليها شخصياً القيادي الكبير في الجبهة الشهيد زاهر علي مطر المياحي.

التدخل الخارجي وهزيمة الثورة

مما لا شك فيه هو أن تنامي الثورة بين صفوف الجماهير قد شكل هاجساً لدى دول الجوار وكذلك القوى العظمى. فقد كانت بريطانيا متورطة في العمل العسكري بشكل واسع. إلا أن أهم تدخل خارجي حدث في العام 1973 حين طلب السلطان قابوس من شاه إيران إرسال قواته للمساهمة في قمع الثورة، وهذا ما حدث. كما قامت الأردن أيضاً بإرسال قواتها لنفس الغرض. وفي الحقيقة فإنه لا توجد أرقام موثقة لحجم هذا التدخل، إلا أن المصادر قدرت المشاركة الإيرانية بين ثمانية آلاف إلى إثني عشرة ألف مقاتل بكامل عتادهم وبغطاء جوي - بما في ذلك قوات النخبة الشهيرة بـ"جاودان" ، الحرس الإمبراطوري - كما قدرت التدخل الأردني بآلاف المقاتلين ووصل تقدير البعض إلى أربع وعشرين ألفا، لكنها تبقى تقديرات غير موثقة. لكن الحدث الأهم كان تصفية الجناح الماوي في اليمن الجنوبي بقيادة الرئيس سالم ربيع على المؤيد بشدة للثورة. تلى ذلك تفاهمات بين القيادة اليمنية الجنوبية الجديدة ودول الخليج، ولا نعلم حتى اللحظة ما مضمون تلك التفاهمات وفيما اذا كانت قد أفضت إلى التضييق على الثوار وتمكين الدولة العمانية من هزيمتهم. أيا كان الأمر، فقد أعلن السلطان قابوس نصره في الحادي عشر من كانون ثاني - ديسمبر 1975، لكن المعارك استمرت وكان آخرها معركة عارام في التاسع من أيار - مايو 1979.

إن التوثيق العلمي الدقيق والتقييم الموضوعي لهذا الحدث الهائل في تاريخ الأمة عموما وتاريخ الخليج خصوصا لهو مسألة غاية في الأهمية، خاصة في زمننا هذا الذي تميز باختلال الموازين واختلاط المفاهيم، فالمقاومة أصبحت إرهاباً والمؤامرات باتت تسمى بالثورات وما عاد المواطن العربي البسيط قادراً على تمييز الحق من الباطل إلا بدفع أثمان هائلة. وبطبيعة الحال فإن المجال هنا لا يتسع لمثل هكذا محاولات. إن الجهود الجبارة التي قام بها كل من الأستاذة منى سالم جعبوب في كتابها القيم جدا "قيادة المجتمع نحو التغيير : التجربة التربوية لثورة ظفار" والأستاذ محمد سعيد العمري في كتابه "ظفار : الثورة في التاريخ العماني المعاصر"، تلك الجهود تحسب لهم ويُشكرون عليها، إلا أن الطريق لايزال طويل أمامنا كي نستطيع أن نروي قصة الثورة كاملة، تلك القصة التي أنشد الثوار يوماً عنها قائلين : قصة شعبنا والثورة يرويها العراك الضاري!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هناك حرب حقيقية تدور على أبواب حماة • فرانس 24 / FRANCE 24


.. المرصد السوري : معركة حماة هي الفاصلة بالنسبة للنظام




.. كوريا الجنوبية: أحزاب المعارضة تتقدم بطلب عزل الرئيس


.. تدفق متزايد للنازحين بسبب الاشتباكات في حلب • فرانس 24




.. سوريا: للمرة الأولى منذ بدء النزاع نازحون يعودون إلى مسقط رؤ