الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
بنية النص الكابوسي. . قراءة نقدية لرواية (وحدَها شجرة الرمّان) لسِنان أنطون
عدنان حسين أحمد
2010 / 11 / 23الادب والفن
حَظيت كتابات سِنان أنطون الشعرية والنثرية باهتمامٍ واضح من لدُن النقاد والدارسين العرب والأجانب. فحينما صدرت روايته الأولى (إعجام) عن (دار الآداب) في بيروت عام 2004 تلقّفها النقاد وكتبوا عنها دراسات نقدية مستفيضة أثنتْ كثيراً على موهبة هذا الكاتب الجديد الذي يُتقن أسرار صنعته الروائية. فلا غرابة أن تَلْقى هذه الرواية اهتماماً مشابهاً من قبل المترجمين الأجانب الذين أقبلوا على ترجمة هذا النص الاشكالي والمثير للجدل الى خمس لغات عالمية وهي الانكليزية والألمانية والايطالية والبرتغالية والنرويجية. كما أصدر سنان في العام ذاته عن (دار ميريت) في القاهرة مجموعته الشعرية الأولى الموسومة بـ (موشور مبلّل بالحروب) والتي أشرّت بقوة على حجم الشعرية التي ينطوي عليها هذا الديوان المتقشف الصغير الذي يكاد يخلو من الترهّل الذي يُثقل كاهل النص الشعري المركّز.
تأتي روايته الجديدة التي صدرت هذا العام عن (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) ببيروت والتي انضوت تحت عنوان (وحدَها شجرة الرمّان) لتعزّز موهبته الروائية التي أشرنا اليها آنفاً، وتؤكد فرادة مشروعه السردي الذي يتميز بقوة الرصد، ودقة الالتقاط الناجمين عن رهافة مجساته، وحساسية لوامسه الاستشعارية التي أمدّت، في خاتمة المطاف، عمله الأدبي بالمصداقية والعمق المطلوبين في أي نص ابداعي ناجح.
التقنية الكابوسية
تجدر الاشارة أولاً الى التقنية التي اعتمدها سِنان أنطون في كتابة نصه الروائي الجديد الذي مزج فيه بنيتين في آنٍ معاً، وهما البنية الكابوسية التي استهلّ فيها النص، وتخللت في متنه كلما دعت الحاجة الى ذلك حتى بلغت الفصول الكابوسية ثلاثة عشر فصلاً. والبنية الواقعية التي احتلت مساحة واسعة بلغت (42) فصلاً. غير أن اللافت للنظر في هذه الفصول هو سورياليتها وغرابة جوها الفنتازي الذي لا ينأى كثيراً عن المناخ الكابوسي الذي يهيمن على الرواية برمتها. ومما يشفع لكاتب هذا النص أن واقع العراق اليومي الذي تدور فيه الأحداث منذ سقوط النظام الدكتاتوري السابق وحتى سنة اصدار هذه الرواية هو واقع كابوسي بامتياز ينطوي على كثير من الغرابة والوحشية والجنون، لذلك فان تماهي البنيتين الكابوسية والواقعية جاء استجابة لواقع الحال الغرائبي الذي عاشه العراقيون سواء خلال تلك السنوات التي أعقبت احتلال العراق أو السنوات الخمس والثلاثين السابقة التي جثم فيها النظام الشمولي على صدور العراقيين وكانت سنوات جحيمية هي الأخرى ألحقت الضرر بشرائح واسعة من المجتمع العراقي متعدد الأعراق والأطياف والديانات.
تبدأ الرواية بمشهد كابوسي مرعب له دلالته العميقة التي سنتلمّسها على مدار النص. إذ يشاهد (ريم)، حبيبته التي خطبها ثم توارت عن الأنظار بعد ثلاثة أشهر، وهي مستلقية على دكّة مرمرية في مكان رملي مفتوح. ثم طلبت منه أن يغسلها كي يكونا معا. وحينما قرر أن يغسلها بحبات المطر المتساقطة تناهى الى سمعه صوت سيارة (همفي) نزل منها أربعة أو خمسة رجال ملثمين يرتدون ملابس خاكية، مدججين بالرشاشات. ضربه أحدهم ضربة قوية طرحته أرضاً. جرّوه بعيداً عن الدكّة، ركعّوه، وقيّدوه بسلك، ثم وضع أحدهم سكيناً على رقبته ونحَرَه من الوريد الى الوريد فتدحرج رأسه مثل كرة على الحيز الرملي. فيما كان اثنان يسحلان (ريم) من ذراعيها ليحشراها في (الهمفي). نفهم من هذا الكابوس أن بطل الرواية هو شاب أرِق تتناهبه الكوابيس والأحلام المزعجة التي تتكرر بين أوان وآخر. وما أن يستفيق من أحد هذه الكوابيس حتى يجد نفسه لاهثاً، متقطّع الأنفاس، ومبللاً بالعرق. هذا الحلم المُفزِع يتكرر منذ أسابيع ربما لانشغاله المُفرط بـ (ريم) التي اختفت في ظروف غامضة، غير أن آخر ما سمعه عنها أنها موجودة في أمستردام.
الشخصية المحورية
تعتمد هذه الرواية على شخصية محورية اسمها جواد كاظم. ومن خلالها سنتعرّف على أسرته الصغيرة التي تتألف من الأب (المغسِّلجي)، الذي يقوم بغسل وتكفين الموتى، والأم، ربة البيت، وأخيه أمير، الطبيب الذي استشهد في معركة الفاو، وشقيقته، التي تزوجت من ستّار، البعثي سابقاً، والمتلوّن الذي ركب الموجة الجديدة، ونجا بأعجوبة من هيئة استئصال البعث. كما نتعرّف على عمه صبري، وهو شيوعي سابق، ترك العراق الى بيروت، ومنها سافر الى اليمن، ليستقر به المطاف في ألمانيا لاجئاً سياسياً. على صعيد علاقاته العاطفية سنتعرّف على أول شخصية نسائية مؤثرة في حياته وهي (ريم) المرأة المطلّقة التي أحبها بصدق، وخطبها، لكنها سافرت وأصبحت أثراً بعد عين. كما ستطل غيداء بحيويتها وعنفوانها الجسدي لتتوارى بعد بضعة أشهر بسبب (جُبن جودي الذي ضيّعها من بين يديه). يغتني النص منذ البداية بشخصيات بعضها بسيط مثل حمّودي، الذي كان يساعد أبو جواد في (المغيسل) ومهدي الذي حلّ محل حمودي إثر غيابه الملتبس، وشخصيات أكثر عمقاً وثقافة مثل الأستاذ رائد، مدرّس مادة التربية الفنية، والأستاذ عصام الجنابي الذي يدرّس تاريخ النحت في أكاديمية الفنون الجميلة وسواها من الشخصيات التي تظهر وتختفي على مدار النص. غير أن شخصية جواد أو (جودي) هي التي تهيمن على حركة السرد منذ إطلالته الكابوسية الأولى التي رأى فيها (ريم) على الدكّة، مروراً بأبرز الأحداث العصيبة التي مرّ بها العراقيون خلال العقود الأربعة الأخيرة، وانتهاء بالحوار المعبِّر الذي دار بينه وبين شجرة الرّمان التي هي وحدها تعرف بأن الحياة والموت متلاحمان، وربما كان أبوه يعرف ذلك أيضاً، لأنهما، أي الحياة والموت، ينحتان بعضهما البعض، ويرتشف كل منهما من كأس الآخر.
تسعى عائلة (أم أمّوري) أن تُبعد ولدها الصغير (جودي) عن المغيسل الذي يعمل فيه أبو أمّوري، لأنه مكان مهيب يبعث على الخوف والرهبة حتى في قلوب الكبار، فكيف إذا ما تعلّق الأمر بالأطفال الصغار إذاً؟ لكنها ذات يوم تجد نفسها مضطرة لأن تأخذ (السفرطاس) الذي نسيه (أبو أمّوري) وتصطحب معها ابنها الصغير (جودي) الى محل عمل أبيه المُلغِز لشخص في مثل سنِّه. ومن هناك تبدأ أولى اكتشافات هذا الطفل الفضولي النابه الذي يريد أن يعرف أشياء كثيرة دفعة واحدة. لمح جودي شاباً مقرفصاً قرب المحل، يرتدي ملابس سوداء، ويبكي، وهذه هي المرة الأولى التي يشاهد فيها جودي رجلاً يبكي لأنه كان يعتقد أن البكاء حكر على النساء والأطفال. ناولت الأم السفرطاس الى حمّودي واستدارت على عجل لكي تجيب على بعض الأسئلة التي دهمت ذهن جودي. فالشاب المقرفص يبكي لأنه مقهور على الفقيد الذي أتى به. وأن أبا أمّوري لا يؤذي الموتى، كما تخيّل جودي، وإنما يغسلهم ويطهرهّم قبل أن يتم دفنهم. ثم سألها عن المكان الذي يذهب اليه الموتى؟ فأجابت بأن الجسد يُدفن في الأرض، أما الروح فانها تذهب الى السماء. ومع ذلك فقد ظلت مهنة الوالد مُحيّرة يكتنفها الغموض لصبي في عمر جودي.
يسلِّط سنان أنطون، ومن دون إقحام، الضوء على الشخصيات الأخرى تباعاً، فنعرف أن أمّوري (أمير) كان طالباً ذكياً وموهوباً، وقد تفوّق على أقرانه وحصل على معدّل (%95) مما أهلّه لدخول الكلية الطبية. ولاشك في أن أمّوري، الشخص الالمعي والمتقّد ذهنياً، سيكون الأنموذج والمثال الذي سوف يقتدي به جودي، ويسير على خطاه. كان أموري يتفهّم بعمق نزعات جودي وتوجهاته الفنية، ويدافع عنها أمام الأسرة بوصفه الشخص الأكثر قدرة على اقناع الوالد الذي لا يرى في فن النحت خيراً، بل أنه لا يعتبر صناعة الأصنام، بحسب تعبيره، مهنة يمكن أن تدّر عليه بالرزق الحلال. أحب أمّوري (وسَن) ابنة الجيران التي كانت طالبة في كلية الهندسة المعمارية، وخطبتها أمه له، لكن الفواجع التي كانت تنتظر أغلب العراقيين وقفت حائلاً دون ذلك، إذ استشهد أمّوري في معركة الفاو عام 1987، وخلّف جُرحاً لا يندمل في نفوس الأهل والأصدقاء والأحبة. فحينما وافق رأس النظام السابق على كل الشروط والمطالب التي شُنَّت بسببها الحرب شعر أبو أمّوري بعبث الحياة ولا جدواها في ظل نظام أهوج شرس لا يُقيم وزناً لحياة العراقيين الذين يموتون سواء على خطوط النار أو في أروقة السجون والمعتقلات السرّية التي ملأت الوطن الجريح. فلا غرابة أن يسأل أبو أمّوري عن السبب الذي دعانا لأن نحارب ثماني سنوات؟ أو عن السبب الذي استشهد من أجله أموري، طالما أن (حارس البوابة الشرقية) قد وافق على الشروط والمطالب التي شنَّ من أجلها الحرب؟ لا يمكن تعداد خصال أمّوري فهي كثيرة ومتشعبة، ولكن حري بنا أن نتوقف عند أحد المواقف الكوميدية الساخرة التي تهشِّم قساوة النص وقتامة أجوائه، فنحن أمام نص مأساوي بكل ما في الكلمة من معنى، غير أن بعض الجُمل والتوصيفات تأتي مثل ابتسامة فضية في موقف مكفهّر. فذات مرّة ضبطه أمّوري وهو يمارس العادة السرّية في الحمّام، إذ نسي جودي أن يغلق الباب لانهماكه بفكرة الاستمناء. ابتسم أمّوري، واعتذر له وأغلق الباب. وبدلاً من أن يوبِّخه أو يُشهِّر به أمام العائلة، نصحه بألا يُكثر من هذه العادة لأنها مضِّرة بالصحة ولا تُحمد عُقباها.
لا يزال جودي صغيراً في نظر العائلة لذلك لن يسمحوا له أن يعرف طبيعة عمل الوالد إلا بعد أن يُنهي امتحانات المرحلة المتوسطة. فأمّوري ذهب الى مقر العمل في الخامسة عشرة، وبدأ الغسل في الثامنة عشرة على وفق التقاليد الاسلامية. ولا شك في أن القارئ الحصيف سيفهم بأن جودي ينتمي الى المذهب الشيعي. كما أنه يسكن في الكاظمية، ولكنه، في حقيقة الأمر، يتسامى على المذهبية، لأنه أراد، كما هو واقع الحال، أن يكون عراقياً منفتحاً على الجميع، ولا يرضى لنفسه أن يكون مذهبياً، موتوراً لغيرما سبب، ضيق الأفق، وطائفياً ممقوتاً من أبناء جلدته المتسامحين الذين يتفاخرون بعراقيتهم وروحهم الوطنية التي تتجاوز الطائفية من أجل الوطن الكبير الذي يلّم الجميع. جودي الكائن المثقف ليس طائفياً، لأن الثقافة أكبر من الطائفة والمذهب. الثقافة تعني الكائن الكوزموبوليتاني الذي يترفّع على التفاصيل الصغيرة. يقع المغيسل إذاً في منطقة الكاظيمة، وهو المكان الوحيد المخصص لغسل المواطنين العراقيين الشيعة. وفي ظهره هناك المكان المخصص لغسل النساء العراقيات الشيعة الذي تديره وتشرف عليه أم حمّودي. هذا المكان يعمل منذ ستة عقود ومن دون اجازة. طلب الوالد من ابنه جودي أن يُتقن ما يقوم به هو نفسه وحمودي أيضاً كي يتعلّم أسرار مهنة غسل الموتى وتكفينهم.
يكرر سنان الموقف الطريف هنا. فعندما مات أبو حمودي وهو في الثالثة تزوجت أمه من رجل آخر بعد سنتين، لكنه أُسِر في الحرب العراقية- الايرانية، ولم يتزوجها بعد ذلك أي رجل آخر لأن الناس كانوا يقولون إن منْ يتزوجها سوف يموت بالتأكيد! شاهد جودي أول عملية غسل وتكفين حينما جاء رجل يحمل جثة أخيه الذي وافته المنية اثر اصابته بالجلطة القلبية. كما شاهد عملية غسل أخرى لشخص محترق في مصنع للكيمياويات عندها أدرك أنهم يعتاشون بفضل الموت خلافاً للناس الآخرين الذين يؤمّنون لقمة عيشهم بواسطة مهن مألوفة لا تستدعي التأمل أو التفكير. من هنا بدأ احساسه الأول بالأسى، وربما بالفجيعة التي لم يكن يستشعرها من قبل حينما كانت مهنة الوالد مجهولة أو مُعتّم عليها من قبل أفراد الأسرة وكأنها سر خطير.
كان جودي يدوِّن الكثير من الملاحظات المتعلقة بالغسل والتكفين في دفتر صغير كي يتقن طبيعة هذه المهنة التي بدت غريبة على شخص يطمح في أن يكون فناناً يعتاش مما تنحته أنامله الرهيفة المستدقة، لا أن يحصل على قوت يومه من غسل أجساد الموتى وتكفينهم. شاهد جودي العديد من الجثث السليمة، لكنه انصعق وشعر بالقُشعْريرة تسري في بدنه حينما رأى جثة شاب ممزقة اثر حادث مروري وقد بدا له جسد الشاب وكأن قطيع ذئاب قد نهشه. بدأت خبرات جودي تتراكم يوماً اثر يوم، وصار يعرف جيداً الأشياء التي تنقض أو لا تنقص صحة الغسل والتكفين.
إن المَشاهد المُفزعة لهذا العدد الكبير من الجثث لابد أن تفضي به الى الاضطرابات والكوابيس الليلية. وفي الكابوس الثاني تحديداً وجد نفسه في مواجهة ملَك الموت الذي يُملي عليه أسماء الأشخاص الذين سيقطف أرواحهم غداً ويبعث بأجسادهم الهامدة الى جودي لكي يطهِّرها. وحينما انتهى من تدوين قائمة طويلة جداً اكتشف أنه لم يكتب سوى جملة واحدة تقول بأن (كل نفس ذائقة الموت).
أخذ حمّودي اجازة لمدة أسبوعين بسبب مرض ألمَّ به فحلّ جودي محلة الأمر الذي أتاح له أن يلمس جسد انسان ستيني ميت أول مرة. شعر في أثناء عملية الغسل بالاختناق فخرج لكي يستنشق هواء نقياً خالياً من رائحة الموت الذي يحاصره ليل نهار.
يستعمل سنان أنطون تقنية الاستعادة الذهنية لكي يقدّم لقارئ النص شخصية جودي ومراحل تطورها. فحينما سُمح لجودي أن يذهب الى المغيسل كان قد أنهى مرحلة الدراسة المتوسطة، لكننا نتعرّف عليه الآن وهو طالب في الصف الأول المتوسط وقد تعلّق بالأستاذ رائد اسماعيل، مدرّس مادة التربية الفنية الذي شجعّه واهتم به كثيراً لأنه موهوب في الرسم. وقد رسم نموذج (الستيل لايف) بطريقة فنية دقيقة أعجبت الأستاذ لأن جودي يعرف الأحجام والأبعاد والمنظورات الفنية. وقد سبق أن رسم العديد من الأشياء. ففي الرسم خَلاصَه الوحيد من حالة الملل التي يمرّ بها كمراهق وجد نفسه مُحاصراً برائحة الموت الخانقة، لذلك فقد رسم أباه من زوايا متعددة، كما رسم الدكة المرمرية، وحنفية المغيسل. وذات مرة ضبطه والده وهو يرسم احدى الجثث، فوبخه قليلاً وطلب منه أن يدع الموتى وشأنهم. فالميت له حرمته. كان جودي يريد أن يخترق التابوهات لأن بذرة الشك موجودة لديه. من هنا نعرف معنى تساؤله: هل أن رسم الميت حرام؟ ولماذا؟ وما هي مسوّغات هذا التحريم؟
يعود سنان أنطون ليكسر هندسة التلّقي لدى القارئ حينما ينتقل الى تفسير رد فعل الطالب المشاكس هادي صالح الذي كان يعيّر جودي بعلاقته (المشبوهة) بالأستاذ رائد الذي وصفه باللوطي ولابد أن يكون جودي هو أحد غلمانه لأن المدرس يتحدث معه كثيراً، ويهتم برسوماته التي ينجزها، ويتمنى له مستقبلاً فنياً رائعاً يتناسب مع مؤهلاته الفنية التي تميزه عن بقية أقرانه التلاميذ. حاول جودي مرات عديدة أن يتفاداه غير أن هذا الأخير تمادى في مشاكساته، الأمر الذي دفع أمّوري أن يشتكيه الى مدير المدرسة الذي هدده بالفصل إن هو كرر هذه الألفاظ البذيئة سواء بحق جودي أو بحق مدرس مادة الرسم. وعلى الرغم من التكريم الذي لقيه من قبل أستاذ رائد، لكنه فُجِع في مطلع السنة الدراسية التالية عندما لم يجد اسم الأستاذ رائد أمام حصة الرسم. وحينما تسقّط أخباره تبيّن أنه قد سِيق الى الخدمة الإلزامية. ونتيجة لهذا الموقف المُحبِط توقف جودي لمدة خمس سنوات عن تعلّم أي جديد يخص الرسم. ثم عاود نشاطه حينما قُبِل في قسم التشكيلية بأكاديمية الفنون الجميلة.
سوف تتكرر مفردة الغياب كثيراً في هذا النص. فمنهم منْ يتلقفه الموت، ومنهم تختطفه العصابات المسلحة، وهناك من يتوارى بشكل غامض، وثمة شخصيات تقرر الهروب وتجد فيه خلاصاً فردياً لحياتها الاشكالية. إن أخشى ما يخشاه جودي هو أن يكون الأستاذ رائد قد ذهب ضحية في الحرب العراقية- الايرانية التي كانت تبدو عبثية في نظر الكثير من العراقيين.
الشخصية المؤازرة
هناك شخصيات كثيرة مؤازرة للشخصية المحورية تتحرك على مدار النص ولعل أبرزها بحسب السياق الروائي هي شخصية (ريم) التي يلتقيها جواد (جودي) قرب قسم المسرح حيث كانت تؤدّي مع مجموعة من طلاب صفها مشهداً لقارب يغرق. تحيّن جواد الفرصة لكي يتجاذب معها أطراف الحديث. وقد نجح في ذلك حينما رآها تقف في طابور الكافيتيريا حيث فاجأها بالقول بأنه أراد أن ينقذها من الغرق، ولكنه لا يعرف العوم. تعارفا على عجل، لكنه أصيب بخيبة أمل حينما رأى خاتم الزواج في اصبعها الأيسر. ومع ذلك فقد دارى خيبته بأن يكونا زميلين في الأقل. رآها مرة ثانية بعد أسبوع أمام مبنى الكلية وهي تلج سيارة زرقاء يقودها شاب، لابد أن يكون زوجها، يرتدي نظارات شمسية. ثم توارت عن الأنظار، مثلما توارى الأستاذ رائد من قبْل.
في الأكاديمية تعلق جواد بالأستاذ عصام الجنابي مذ ألقى محاضرته الأولى في تاريخ النحت. كان الأستاذ عصام، وهو شخصية مؤازرة كما أشرنا آنفا، لبقاً، ويتحدث بطلاقة عجيبة وينتقي المقولات والمقتطفات الدالة شديدة التركيز من بينها (أن هناك موسيقى في الحجر) كما يدعي فيثاغورس. ثم يستشهد بمقولة بيكاسو الطريفة التي تقول: (بأن الفن هو الكذبة التي تصوّر لنا الحقيقة). ساهمت المحاضرات القيّمة للأستاذ عصام في تعميق ثقافة جواد، وحرّضته على القراءة ومُشاهدة الأعمال الفنية بمختلف أجناسها. وذات مرة سأله الاستاذ عن سر اعجابه بأعمال الفنان جياكوميتي فأجابه اجابة عميقة معبِّرة ( إن الجمال يضربني في الصميم بتلقائية). وفي حقيقة الأمر كان جواد يحب أعمال جياكوميتي لأنها تعبّر عن الرؤية الوجودية لحياة خاوية بلا معنى. تماماً مثل الحياة العبثية الخاوية التي يحياها هو وسط عالم الأموات والمشوَّهين والمحترقين. أن جوادا يشبه تماماً أشخاص جياكوميتي الوحيدين والمعزولين واليائسين ربما، فهم بحسب توصيفه بلا معالم واضحة، يأتون من المجهول ويمضون اليه.
وعوداً على الشخصية النسائية الأولى المؤازرة (ريم) التي ظهرت بعد غيابها الأول وصادفها جواد أمام قسم المسرح، وذكّرها بحادثة غرق القارب التي جسّدتها قبل سنتين أو أكثر فتذكرته. ثم عرف منها أن زوجها أياد قد استشهد في المعركة وأنها عادت الى مقاعد الدراسة من جديد. وهذا يعني من وجهة نظر جواد أن الموت هو أعادها الى الأكاديمية.
ما إن توطدت العلاقة العاطفية بينهما حتى بدأت تبوح بأسرارها الخاصة اليه. فعرف منها أن علاقتها الزوجية بأياد، المهندس، خريج قسم النُظم والسيطرة، والذي أصبح لاحقاً ضابطاً في الحرس الجمهوري، كانت علاقة متشنجة، وكان يضربها كثيراً، وذات مرة كسر يدها. فحينما استشهد لم تحزن عليه، بل حزنت على السنوات المريرة التي أمضتها معه. كانت علاقة جواد بريم أنضج من علاقتيه السابقتين اللتين مرّ بهما في مرحلة المراهقة. أما هذه العلاقة الجديدة فقد أخذت طابع الحب الحقيقي الذي يجب أن ينتهي بالزواج إن سمحت الفوارق الطبقية بين العائلتين. كما أن جوادا كان يخشى أن تكون مهنته الوالد عائقاً أمام هذه الزيجة.
كان جواد يرسم ريم كثيراً، ويهدي غالباً تخطيطاته اليها. وذات مرة قرر أن ينحتها شرط أن تكون عارية. هنا يمنح سنان أنطون قارئه فرصة ثانية للاسترخاء والتخلص من المناخ الكابوسي الذي يهيمن على الرواية بسبب المغيسل والأعداد المتزايدة من الجثامين التي تصل الى هذا المكان يوميا. وبعد ثلاثة أشهر يلبّي جواد دعوة ريم لتناول الغداء في بيتها. وبما أن زوجة أبيها الثانية كانت قد سافرت الى الموصل، وأن الوالد منهمك في صفقاته التجارية ولن يأتي الإ في ساعة متأخرة فقد أتيح لريم أن تعبّر عما يجول في داخلها من حب ولهفة اشتياق الى جواد. وبعد أن أنهى جواد تناول وجبة الغداء أشارت له أن يصعد الى الحمّام الكائن في الطابق الأعلى لكي يغسل يديه. ثم تتأجج عواطف الطرفين وتأخذ الأمور منحىً آخر يتجاوز حدود القبلات، ودورة اللسان على اللسان، ومص الحلمتين الى شم الفرج ولحسه، ومداعبة بقية الأعضاء الحساسة قبل أن يصلا الى ذروة اللذة الجنسية. عند ذاك تطلب منه أن ينحتها وهي عارية كما كان يطلب من قبل.
إن هذا المشهد الايروسي الذي أخذ من الكاتب نحو خمس صفحات كان كفيلاً بأن ينقل القارئ الى مناخ آخر يلتقط فيه أنفاسه، ويتخلص قليلاً من الأجواء الكابية التي تغطي مساحة واسعة من النص.
ولأن الرواية معنية بأخطر فكرة في الوجود وهي فكرة الموت أو على الأصح القتل المتعمد ولأسباب طائفية في الأعم الأغلب فلابد للكوابيس أن تُطِّل برأسها بين أوانٍ وآخر. وقد انتقى سنان أنطون بحدْسه الروائي المعروف حادثة اجرامية مشهورة عرضتها أغلب المحطات الفضائية في العالم وقد جاءت في النص الروائي على شكل كابوس مرعب حدّ اللعنة. إذ ظهر على الشاشة خمسة مُلثمين يقفون حول رجل راكع على قدميه، بينما كان قائدهم يقرأ حكم الاعدام على الأسير المغلوب على أمره. أزاح القائد الكيس الأسود وأمسك بالشعر الأشقر للضحية. أدار رقبته الى جهة اليسار وضربه بالسيف ضربة قوية واحدة فصلت الرأس عن الجسد، فسال الدم على الشاشة، وكسا كل شيء باللون الأحمر القاني.
بعض الموتى الذين يفِدون الى المغيسل يذكّرونه بوجوه يعرفها من كثب. فمحسن الذي قُتل في حادثة سطو في مدينة العمارة ذكّره مباشرة بصديقه الحميم باسم من مدينة السماوة الذي مات ميتة شنيعة حينما قصفت طائرة أميركية بطارية الصواريخ المتموضعة بجوار معمل سمنت السماوة وأحالت كل شيء الى خراب. وحينما يستعيد جواد هذه الحادثة المفجعة يمنحنا فرصة جديدة للاسترخاء حيث يأخذنا الى بحيرة ساوة، ويسرد لنا تاريخها، وعمرها الزمني، وجمالها الخلاب وسط مشارف المتاهة الصحراوية.
عاصرتْ عائلة جواد، مثلها مثل العائلات العراقية الأُخَرْ، العديد من الحروب والحصارات. فحينما اندلعت حرب اسقاط النظام السابق عام 2003 كانت العائلة قد اكتسبت خبرة جيدة في ادخّار المعلّبات وقناني الماء الصالحة للشرب. وصاروا يعرفون الدلالات المبكرة للهجوم. فحينما شاهدوا الدخان الأسود يغطي سماء بغداد أدركوا أن سقوطها قد بات قاب قوسين أو أدنى، لأن الكثير من العراقيين قد تشفوا بالطاغية وتركوه يواجه مصيره المحتوم.
بينما كان الأميركيون يقصفون بغداد توفي الحاج كاظم وهو يصلّي، غير أن جوادا لم يغسّله كما كانت تتمنى أمه فهي تعتقد بأن روح الحاج سوف ترتاح إن قام جواد بتغسيله وتكفينه، ولكنها لم تدرك بأن ولدها لا يؤمن بوجود الروح أصلاً، فهو كائن وجودي ولا تعرف الغيبيات سبيلاً الى أعماقه القلقة. كان لحظتها يفكر بشجرة الرمّان التي كانت تشرب مياه الموت لعقود طويلة، وها هي الآن تشرب الماء المنساب من جسد أبيه الذي فارق الحياة بصمت ثقيل. وكعادة أغلب العراقيين الشيعة قرروا دفنه في مقبرة النجف على الرغم من صعوبة الطريق وما لاقوه من اهانة كبيرة على يد الجنود الأميركيين الذين استوقفوهم قبلَ الوصول الى النجف بنصف ساعة. وحينما عادوا في صبيحة اليوم الثاني شاهدوا عدداً من الآليات المحترقة على قارعة الطريق.
تعمّد الأميركيون قصف بعض الأماكن المهمة في العراق مثل دائرة السينما والمسرح، وأكاديمية الفنون الجميلة، وشارع المتنبي لمحو الذاكرة العراقية بكل أنماطها المعروفة المرئية والمسموعة والمكتوبة. كما تركوا الحبل على الغارب للصوص المحليين، والسرّاق المحترفين الأجانب الذين جاءوا مع دبابات المُحتل لينهبوا الآثار والتماثيل واللُقى الفنية النادرة. وقد ارتأى سناناً أن يركز على الدمار الذي لحق بقسم السمعية والمرئية في الأكاديمية من خلال الجولة التي قام بها جواد في القسم المقصوف ورأى بأم عينيه كيف تحولت الكتب والمصادر الثمينة وأشرطة الأفلام النادرة الى أكداس من الرماد، وربما لم تنجُ أطروحة ريم عن (آرتو ومسرح القسوة) من النيران التي التهمت القسم برمته.
الأب الذي مات يعود في أحد الكوابيس التي شاهدها جواد في نومه. إذ رأى دكّة طويلة تنساب فيها الجثث على حزام متحرك باتجاه اليمين وتنتهي عند فتحة يقف عندها رجال يرتدون بزّات عمل يرفعون الجثث ويضعونها في شاحنة كبيرة. لاحَ الأب في زاوية ما من المكان وهو يستحث جواداً لكي يغسل الجثث، لكن صنابير الماء كانت خالية. فعاود الأب ظهوره غير مرة في الزوايا الثلاث الباقية قبل أن يتوارى عن الأنظار.
الشخصية الموازية
إذا كان الأخ أمير يُعد الشخصية المثالية من وجهة نظر جواد في الأقل، فإن العم صبري يعتبر الشخصية الموازية لجواد من الناحيتين الفكرية والوجودية. كما أن أوجه التقارب والانسجام بين الاثنين كثيرة. وعلى الرغم من أن العائلة ذات جذور دينية واضحة، ولا تخلو من بعض التطرف الذي لمسناه من جهة الأم ذات العقلية البسيطة، إلا أن العم صبري شذّ عن القاعدة الأسرية وانتمى الى الحزب الشيوعي الذي لا يقيم وزناً للأديان ولبعض الأعراف الاجتماعية والأخلاقية بسبب ما نسجته الذاكرة الشعبية المتواضعة من تصورات قد لا تكون بالضرورة صحيحة، يعززها في ذلك خطاب معظم الأحزاب السياسية العراقية الذي شوّه صورة هذا الحزب في أذهان الناس. وعلى الرغم من العلاقة الحميمة التي كانت تربط جواد بأخيه الأكبر أمير، إلا أنه من الناحية الوجودية كان يميل الى عمه صبري، الشخصية العلمانية التي اختارت الانتماء الى حزب علماني، ولم ترتمِ في أحضان الدين وما ينطوي عليه من غيبيات كثيرة. كان هذا الخيط الفكري أو الوجودي هو الأقوى من بقية الخيوط المتشابكة التي تربط جواد ببقية أفراد العائلة أو ثلة الأصدقاء الذين يعرفهم. لذلك يمكننا القول بأن صبري يمثل الشخصية الموازية لجواد من حيث الايمان المطلق بالعلم والأدب والفن وما الى ذلك من معطيات ثقافية رصينة. في بادئ الأمر لم يدرك جواد ما معنى أن يكون الانسان شيوعياً. وكل الذي عرفه أنه حزب محظور من قبل سلطة البعث، وأن الذي ينتمي الى أي حزب محظور ستكون عقوبته الاعدام. لذلك هرب العم صبري الى بيروت، ومنها انتقل اليمن، ثم استقر به المقام في ألمانيا حيث واظب على تعلّم اللغة الألمانية وأصبح مترجماُ. إن هذا النموذج المهاجر أو المقصي أو المُقتلع من الجذور كان مألوفاً للعراقيين الذين فارقوا أبناءهم لثلاثة عقود. وحينما عادوا اكتشفوا أن الأمور قد انقلبت رأساً على عقب. فحينما عاد صبري بعد سقوط النظام عام 2003 اكتشف أن حزبه (الوطني) هو أول من وافق على الارتماء في أحضان الرأسماليين الأميركان الذين جاءوا لاسقاط النظام الدكتاتوري، ونشر الديمقراطية في العراق، وإغراق العراقيين في بحبوحة لم يعرفوها من قبل. والأغرب من ذلك فإن رئيس الحزب الشيوعي العراقي قد انضم الى مجلس الحكم، ليس بوصفه شيوعياً، وإنما لكونه شيعي! قام صبري بجولات ميدانية كثيرة في شارع المتنبي، ومقهى حسن عجمي، وشارع الرشيد، ونصب الشهيد، ومقر الحزب الشيوعي في ساحة الأندلس. وفي اليوم الثاني قرر أن يذهب الى ساحة التحرير ليحتفل هو وجواد بذكرى 14 تموز وتضحيات الشيوعيين. ومن بين الشعارات المهمة التي رآها جواد تقول: ( حزبك فهد ما مات، باقي الأبد). وفهد شخصية سياسية راسخة في أذهان شرائح كثيرة العراقيين فهو الذي قال قبل لحظة اعدامه في حقبة الحكم الملكي (الشيوعية أقوى من الموت، وأعلى من المشانق). كانت زيارة صبري الى العراق خاطفة، وقد وعد العائلة أن يكررها فيما إذا أتيحت له فرصة مماثلة. كما وعد أن يساعد جواد في الحصول على زمالة دراسية لاكمال دراسته الفنية العليا.
الشخصية المركّبة
لا شك في أن كل الشخصيات الرئيسة التي توقفنا عندها آنفاً هي شخصيات مستقرة عند نمط محدد من التفكير والقناعات سواء أكانت علمانية أو دينية متشددة أو وجودية، غير أن شخصية السيد جمال الفرطوسي تبدو مركّبة، لأنها بدلّت جلدها، ولبست لبوساً مختلفاً يتناسب مع الوضع الجديد. صحيح أنه لم يركب الموجة الجديدة مثل ستّار، البعثي الذي تحوّل بين ليلة وضحاها الى عضو في أحد الأحزاب الدينية التي هيمنت على السلطة، لكنه تغيّر بالاتجاه المعاكس اثر نجاته في الانسحاب من الكويت عام 1991. كان الفرطوسي يتناول الخمر، ويبحث عن الملذات الجنسية، لكنه الآن مسؤؤل عن جمع الجثث مجهولة الهوية. وكان يحث جواد على العودة الى مهنة التغسيل والتكفين لأن فيها أجراً عظيماً في ظل الظروف القاسية التي يمر بها العراق. وحينما تذرع جواد بأن الكوابيس المرعبة تقض مضجعه يومياً نصحه بأن يذهب الى المسجد ويصلي لأن الصلاة كفيلة بأن تبعث فيه قلبه الطمأنينة والأمان وتنقذه من فزع الكوابيس والأحلام المزعجة.
يعتذر جواد عن العودة الى هذه المهنة مرة ثانية لأن طريقه في الحياة مختلفة، وقناعاته تتقاطع مع قناعات الآخرين وتوجهاتهم الروحية. لذلك نصحه أن يتفق مع حمّودي لأنه يتقن هذه المهنة ولديه خبرة طويلة في هذا المضمار. غير أن حمّودي، الذي ذهب الى سوق الشورجة ليشتري السدر والكافور، يختفي، ولا يعرف له جواد أثراً، ولابد أن بعض الفصائل المسلحة قد خطفته أو قتلته لأسباب طائفية محض. فلم يبقَ أمام الفرطوسي سوى أن يتصل بمهدي، الشخص الذي كان يساعد حمّودي في عملية الغسل والتكفين، خصوصاً أن عدد القتلى وضحايا العنف قد بدأ يزداد بشكل لافت للنظر بسبب الانقسامات الحادة التي سببها السياسيون الجدد الذين جاءوا مع جنود الاحتلال.
التوتر الطائفي
تأخذ الانقسامات الحادة والتوتر الطائفي الذي أتت به الأحزاب والتكتلات الدينية مساحة واسعة من الرواية. ولم تعد التوجهات المذهبية لمجمل الشخصيات خافية على القارئ الكريم الذي يتعاطف مع الشخصيات المحايدة والمتسامحة التي تضع الجانب الوطني على رأس اهتماماتها، ويتحامل على الشخصية الطائفية المريضة التي تقدّم المذهب على الوطن. فجواد المثقف والعلماني والفنان الأصيل لم يجد ضيراً في أن يحب ريماً على الرغم من انتمائها الى الطائفة الأخرى، غير أن والدته الكبيرة سناً كانت تلقي باللوم على الُسنّة الذين فجروا مرقد الامام الحسن العسكري. كما أنها تتهم هذه الطائفة بأنها هي التي كانت تقف وراء بعض التفجيرات أو عمليات القصف التي كانت تستهدف الامام الكاظم(ع).
وفي خضم هذه التوترات السياسية والاجتماعية والمذهبية وقبل أن نلتقط أنفاسنا نتعرف على المصير المفجع الذي ألمّ بريم. إذ كتبت رسالة مطوّلة تخبرنا فيها قد أصيبت بمرض السرطان، وعلى الرغم من استئصال ثديها الايسر، إلا أن هذا المرض الخبيث قد انتشر في جسدها. لذلك طلبت من جواد ألا يبحث عنها بعد الآن، فهي نفسها لا تطيق أن ترى جسدها بالمرآة، فكيف سيكون الأمر بالنسبة الى جواد الذي تعلّق بنهديها وهام بهما حد الجنون. كما طلبت منه، وهو أصعب طلب في حياتها، أن يبحث عن امرأة أخرى ويتزوجها لكي يعيش سعيداً بقية حياته.
بعد ثلاثة أشهر من حادثة تفجير الامام الحسن العسكري اندلعت موجة من المواجهات الجديدة بين الطائفتين راحها ضحيتها العديد من الناس البسطاء الذين لا ناقة لهم ولا جمل. كما برزت الى السطح ظاهرة السجون السرية التي يعذبون فيها أفراد الطائفة التي خسرت السلطة، وشاعت في حينه أساليب تعذيب وحشية مثل استعمال المثقاب، والمنشار الكهربائي وما الى ذلك أدوات بعضها كان شائعاً منذ أيام النظام الدكتاتوري السابق.
نتيجة لهذه الاحتقانات الطائفية التي أججها الموتورون من قبل الطرفين عرف العراقيون سياسة التهجير الطائفي. ذات يوم عاد جواد من المغيسل الى البيت فوجد ضيوفاً من أقرباء أمه يرومون البقاء معهم مدة من الزمن ريثما تهدأ الأوضاع. فرح جواد لهذه الفكرة خصوصاً وأن غيداء فتاة شابة في التاسعة عشر من عمرها تفور شباباً وحيوية. نامت غيداء وغيث في غرفة الضيوف، فيما نامت أمها على سرير واحد مع أم جواد لأن لديها آلاماً في الظهر.
تطورت العلاقة بين جواد وغيداء حتى أخذت بعداً جنسياً. إذ كانا يتعانقان بعد منتصف، ثم يتعريان وينامان في سرير واحد. وذات يوم طلبت منه أن يفعل بها ما يشاء شرط ألا يتجاوز على رأسمالها الوحيد، ويفض بكارتها في أويقات اللذة العمياء. وحينما سالته ذات مرة إن كان يريدها شريكة لحياته قال (إنه لا يفكر بالزواج) حينذاك وصفته بالجبان وانسحبت الى عالما الخاص. وحينما سافرت مع عائلتها الى السويد عاتبته لأنه (ضيّعها من بين يديه).
ثمة مواقف أخرى كثيرة لا يمكن التوقف عندها جميعاً على الرغم من أهميتها. ولابد لنا من العودة الى الشخصية المحورية التي تنعقد عندها الأحداث. فبعد غياب ريم وهجرة غيداء الى السويد لم يبق أمام جواد الذي كان يعيش مع الأموات، باستثناء أمه ومهدي، وشعوره باليأس المطلق من الأحزاب والتكتلات الطائفية التي قادت البلاد الى حافة الهاوية لم يجد جواد بُداً من السفر الى الأردن، علّه يحصل على زمالة دراسية بمساعدة عمه صبري أو أستاذه عصام الجنابي. طوال الطريق الى الأردن كان يفكر بأشياء كثيرة من بينها أمه التي تركها عند شقيقته، وريم التي تقف عند حافة الموت، وغيداء التي تلقفها المنفى السويدي. عند نقطة الحدود الأردنية صدمه الضابط حينما أخبره بأن السلطات الأردنية تمنع دخول العزّاب الى أراضيها وان عليه أن يعود ويبحث عن منفذ آخر للهروب من البلاد التي يخيّم عليها الموت منذ سنين طويلة.
في المشهد الأخير من الرواية انتهى جواد ومهدي من غسل وتكفين طفل في التاسعة من عمره يشبه ملاكاً صغيراً، فارقَ الحياة مع أبيه في انفجار قرب المسرح الوطني. أحس جواد بوخزات مؤلمة في تجاويف قلبه فخرج وجلس قرب شجرة الرمّان لكي يحاورها. فهي الوحيدة التي تشرب من ماء الموت، لكنها تزهر وتثمر. حط بلبل على غصن من أغصانها وبدأ يغرّد بصوت جميل، لكن مهدي أفزعه فطار حينما نادى على جواد بأنهم جاؤوا بجثة جديدة. جواد، كما أشرنا سابقاً، لا يؤمن بالقدر، ولم يتقين من وجود شيء اسمه الروح، ولكنه كان يظن أن الحياة والموت عالمان منفصلان تماماً، غير أنهما الآن متلاحمان مثل شجرة الرمان، وأن قلبه يشبه رمانة يابسة تسقط في كل لحظة الى هاوية بلا قرار (لكن لا أحد يعرف. لا أحد، وحدها شجرة الرمّان. . . تعرف).
خلاصة البحث
لاشك في أن كل شخصية من شخصيات الرواية تريد أن تقول كل ما عندها لكي تعبِّر عن معطياتها الفكرية والثقافية والدينية الى حدما. ولأن الرواية، كما أشرنا سابقا، هي رواية كابوسية بامتياز، وذات مناخ سوريالي يمكن تحسسه بسهولة فإن فكرة تحديد هذه المعطيات قد تبدو شاقة ومعقدة، لذلك اعتمدنا على المنهج التطبيقي الذي ساعدنا في تفكيك الشخصيات، وتحليل أبعادها الفكرية، وملامسة طوّية كل شخصية على حدة. ويبدو من مسار هذه الرواية الكابوسية أن نسبة الخاسرين في المجتمع العراقي كبيرة. ولو تتبعنا مصائر أغلب الشخصيات الرئيسة التي شكّلت متن هذا النص لوجدناها خاسرة، ولا تمتلك القدرة على المقاومة الى نهاية المطاف، أو أنها في أفضل الأحوال تبحث عن الخلاص الفردي من الجحيم الذي تعيش فيه لكي تتجه في نهاية المطاف الى المجهول. فجواد، الشخصية الرئيسة التي كانت نهباً للأرق المتواصل والكوابيس الثقيلة المفزعة، سواء تلك التي تسببها السلطة، أو التي تنجم عن أعمال العنف والقتل البربريين، كما هو حال الأب الذي جلبَ رأس ابنه المقطوع لأن الخاطفين كانوا يساومونه على دفع مبلغ كبير كي يسلِّموه بقية الجثة! لا يمكن لشخصية مثل جواد مقهورة ومُطارَدة، ليس في واقعها اليومي، بل حتى في كوابيسها وأحلامها المؤرِّقة أن تصمد في ظل هذه الظروف القاسية، وتقاوم الى ما لانهاية، لذلك قرر أن يترك العراق الى الأردن أولاً، ومنه الى أية دولة تمنحه حق اللجوء الانساني في أبسط الأحوال. ولكن حتى هذا الخلاص الفردي أو الهروب إن شئت لم يتحقق لأن السلطات الأردنية كانت قد أصدرت قراراً تمنع فيه دخول العزّاب الى أراضيها لذلك عاد من المجهول الذي توجّه اليه الى دائرة الجحيم التي يتسيّد فيها الموت بأبشع أشكاله.
إن السرطان الذي أصاب ريم كانت له دلالات مجازية كبيرة. فهو في هذا النص الاشكالي أبعدَ من أن يكون مرضاً عضالاً يهزم امرأة عاشقة لأن العفونة الفكرية، والعهر السياسي، والخراب الفظيع الذي شهده العراق غبَّ الاحتلال هو الذي طعن منظومة القيم الأخلاقية في الصميم، وربما يكون الحب هو الضحية الأولى لأنه، ببساطة، لا يعيش في الأماكن العفنة.
لقد فشلت ريم في اقامة علاقة طبيعية مع زوجها الأول الذي كان هو الآخر وقوداً للحروب العبثية. كما فشلت مرة ثانية في أن تواصل قصة حب جميلة أينعت في أرض ملعونة صعقتها القنابل الأميركية المطلّية باليورانيوم المنضّب. أما قصة حبه مع غيداء فكانت أشبه بالتنفيس عن الحاجة الجنسية التي تزداد تأججاً واضطراماً في الأيام العصيبة. فعلى الرغم من تعلِّقة الشديد بها إلا أنه لم ينجح حتى في اقناعها بالأسباب التي تحول دون زواجه منها، خصوصاً وأنها فتاة مثقفة، وغير طائفية، وتنوي دراسة الأدب الإنكليزي في السنة القادمة، وتقرأ القصص والروايات المحلية والمترجَمة لتؤكد حجم الوشائج العديدة التي تربطهما معاً. هذا إذا ما وضعنا جانباً مواصفاتها الجسدية التي كانت كفيلة بأن تجذب أي شاب في عمره الى مداراتها الآسرة.
إذا كنا نبرر موت الأب على أنه قضاء وقدر فإن موت شقيقه أمير كان خسارة فادحة على الصعيد الأسري، بل أن البلد قد فقد الكثير من الطاقات العلمية والابداعية الشابة هو الذي يُبرز حجم المحنة التي شملت الجميع تقريباً. فكل الشخصيات ممتحنة في هذه الرواية تقريباً، ولم ينجُ منها حتى الذين هربوا الى المنافي البعيدة. فالعم صبري، على سبيل المثال لا الحصر، هرب الى ألمانيا واستقر بها، ولكنه كان يعيش الأوضاع والمستجدات الداخلية في العراق شأنه شأن أي عراقي آخر. وربما يكون الفرق الوحيد أن العم صبري كان حراً طليقاً، بينما كان العراقيون أسرى محنٍ وفواجع متلاحقة. لقد عاد العم صبري لكي يطمئن على الأهل والأقارب والأصدقاء، ولكنه فُجع بالخراب الكبير الذي لحق بالبلاد والعباد. كما صعقته التبدلات الكبيرة التي طرأت على الجوانب السياسية والفكرية في البلد. فالمنظمات الارهابية التي وضعتها الادارة الأميركية في قائمة الارهاب هي التي تتسنم اليوم سدة الحكم. وأن رجال الدين الأصوليين أو المتشددين هم الذين يحتلون الواجهة الأمامية للمشهد السياسي. أما المثقفون العراقيون فهم الوحيدون خارج اللعبة السياسية باستثناء وعّاظ السلاطين والانتهازيين وذباب الموائد الذين يردحون في كل الأزمنة والعصور.
يعرّي سنان أنطون ظاهرة التوتر الطائفي التي استشرت بعد تفجير مرقد الامامين علي الهادي والحسن العسكري (ع). فقد سبقها وأعقبها اغتيال العديد من الشخصيات القيادية الاسلامية على رأسها السيد محمد باقر الحكيم، وعزالدين سليم قبل أن تستهدف التفجيرات المواطنين البسطاء الذين لا حول لهم ولا قوّة. وقد انتقى سنان أنطون نماذج كثيرة من التفجيرات وأعمال العنف التي تفضح الأسباب والدوافع المريضة التي تقف وراء شحن وتغذية هذه الانقسامات الطائفية الحادة. ويبدو أن موقف جواد، بطل الرواية، واضح لا لبِس فيه. فعلى الرغم من انتمائه الفطري لعائلة شيعية، إلا أن وعيه الحاد، وثقافته العميقة قد أمدّتاه بالحصانة الفكرية التي جعلته يترفّع على الأديان والمذاهب. ولا يرى غضاضة في القول بأن كل التوصيفات الدينية والمذهبية قد باتت تخنقه وكأنها مسامير صدئه في رئته.
تنطوي شخصية جواد المثقفة على فضاءات رحبة تتيح للروائي امكانية مناقشة كم كبير من القضايا المُلِّحة كالأدب والفن والفكر والدين والسياسية وما الى ذلك. ولأن البطل في هذه الرواية هو رسّام ونحّات بالدرجة الأولى، اضافة الى قراءاته الأدبية المتنوعة فقد أتُيح لقارئ النص أن يتعرّف على عدد من الأسماء الفنية المهمة مثل بيكاسو وهنري مور ورودان وجياكوميتي. وربما يكون هذا الأخير الأكثر حضوراً بسبب هيمنة تماثيله على ذهنية جواد في الواقع والحلم في آنٍ معا.
تشير هذه الرواية بشكل صريح الى التاريخ العراقي الغارق في سوداويته وفظاظته، إذ لم يسْلم العلماء والأدباء والمفكرون (والأئمة) من جور الحكّام وظلمهم. فحتى الامام الكاظم (ع) الذي يجلس جواد في حضرته الآن، كان سجيناً في في زنازين الخليفة هارون الرشيد وقد مكث فيها نحو سبع سنوات، ثم مات مسموماً على يد السندي بن شاهك. أما جواد فقد كان هو الآخر رهين السجن الأكبر (العراق) أو رهين السجون الطائفية التي تناسلت لتصبح بعدد الفصائل الجديدة المسلّحة التي تسنّمت سُدة الحكم بعد سقوط الدكتاتور واختفائه خشيةً من مواجهة مصيره المحتوم على الطريقة العراقية. لقد شعر جواد، حينما قرر زيارة ضريح الإمام، أنه غريب بين زوّارة، وأنه لا يبكي الأمام الشهيد، وإنما يبكي نفسه، لأنه أصبح في خاتمة المطاف غريباً بين أهلة وذويه، ولم يجد منفذاً سوى الهروب من هذا الجحيم الى المجهول. ومع ذلك فسوف نكتشف لاحقاً أن هذه الشخصية الاشكالية انما تدور في حلقة مُفرغة لا يُحسّد عليها.
لابد من الاشارة في خاتمة المطاف بأن كاتب هذه الرواية ومبدِعها سنان أنطون قد استنطق الواقع الكابوسي الذي مرّ به العراق غب سقوط النظام السابق. وكان أميناً في رصده والتقاطاته الذكية التي شرّحت الانسان العراقي، وفككت فضاءه السوريالي الذي عاش فيه على مدى العقود الأربعة الأخيرة. كما لامستْ البنية الداخلية العميقة للذاكرة الجمعية العراقية، وتحسست بقدر كبير من التبصّر طويّة الشخصية العراقية بمختلف نماذجها وأشكالها في المجتمع العراقي.
إذاً، يمكننا القول وباطمنئان كبير أن رواية (وحدَها شجرة الرمّان) تشكِّل اضافة جدية الى المشهد الروائي العراقي خاصة، والعربي على وجه التحديد.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. أون سيت - فيلم Red One يحصل حتى الأن على 68 مليون دولار إيرا
.. النساء والفنون القتالية: تمكين للعقل والجسد.. • فرانس 24
.. المغرب.. مشهد من فيلم في مهرجان مراكش يثير جدلا
.. مهرجان مراكش السينمائي الدولي يستضيف الممثل والمخرج شون بن ف
.. تزاحم شديد حول عامر خان بمهرجان البحر الأحمر ونجم بوليوود يع